د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
يلجأ المُصَلِّي أو الإمامُ إلى القراءة من المصحف، فما حكم هذا الأمر؟ يجيب عن هذا السؤال الدكتور راغب السرجاني.أهم مقتطفات المقال
السؤال: يُواجه المسلمون الذين يُريدون الحفاظ على سُنَّة قيام الليل مشكلة مهمَّة، وهي أن حفظهم قليل والقراءة المطلوبة طويلة! كما يُواجه المشكلة نفسَها الإمامُ الذي يؤمُّ المُصَلِّين في صلاة التراويح في رمضان؛ حيث يرغب رُوَّاد بعض المساجد في ختم القرآن، أو نصفه، ولا يجدون إمامًا حافظًا! وهنا يلجأ المُصَلِّي أو الإمامُ إلى القراءة من المصحف، فما حكم هذا الأمر؟
الجواب:
إن مناقشة هذا الأمر يتطلَّب الحديث عن عدَّة مسائل:
أما المسألة الأولى فهي خاصة بصلاة الفريضة؛ حيث لا تُشرع القراءة من المصحف في هذه الصلاة؛ لأن السُّنَّة المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراءة عن ظهر قلب، ولم يُنقل عن أحد منهم القراءة من المصحف؛ ولأن معيار التفضيل في الإمامة الحفظ والإتقان للقرآن لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم -فيما رواه عَنْهُ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ رضي الله عنه-: «.. وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا..»[1]. وقد كره أهل العلم القراءة من المصحف في الفريضة ولم يُرَخِّصُوا فيه، وذهب أبو حنيفة إلى بطلان الصلاة بذلك[2]، وإن كان الجمهور يرى صحَّة الصلاة مع الكراهة[3]. فمَنْ كان حافظًا فليقرأ، ومَنْ لم يكن حافظًا فليقرأ ما تيسَّر له -ولو من قصار السور- وليُكَرِّر تلك السور ولا حرج عليه في ذلك، وينبغي له أن يجتهد في حفظ قدر أكبر من السور ليتمكَّن من أداء الفريضة من غير نظرٍ إلى المصحف.
والمسألة الثانية خاصَّة بصلاة النافلة؛ فالقول الراجح أنه لا بأس في القراءة من المصحف لا سيما في القيام؛ لأن النفل في الشريعة مبناه على التخفيف؛ ولأن المقصود في النفل الإطالة وكثرة القيام، والقراءة من المصحف تُحَقِّق ذلك لمن لم يكن حافظًا، ولما يترتب على ذلك من سماع القرآن، ولما في ذلك من التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم؛ لأنه قد يصعب وجود حفَّاظ في بعض المساجد؛ ولأنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه كان «يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنَ المُصْحَفِ»[4]. وسُئل الزهري عن رجل يقرأ في رمضان في المصحف فقال: كان خيارنا يقرءون في المصحف[5]. وقد رخَّص المالكية والشافعية والحنابلة في ذلك؛ قَالَ مالك: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَؤُمَّ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ فِي المُصْحَفِ فِي رَمَضَانَ وَفِي النَّافِلَةِ[6]. وقال النووي (من الشافعية): لَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مِنَ المُصْحَفِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ يَحْفَظُهُ أَمْ لَا؛ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَحْفَظِ الْفَاتِحَةَ، وَلَوْ قَلَّبَ أَوْرَاقَهُ أَحْيَانًا فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ، وَلَوْ نَظَرَ فِي مَكْتُوبٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ وَرَدَّدَ مَا فِيهِ فِي نَفْسِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ طَالَ لَكِنْ يُكْرَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ[7]. وقال أحمد: لا بأس أن يُصَلِّيَ بالناس القيام وهو ينظر في المصحف. فقيل له: في الفريضة؟ قال: لا, لم أسمع فيه شيئًا[8].
وأرى أن التفريق بين الفريضة والنافلة هو القول الموافق للأدلة والمقاصد الشرعية، ولا ينبغي أن يُسهَّل للناس ويُرَخَّص لهم في القراءة من المصحف في الفريضة؛ لأن ذلك يُفضي إلى تفريط الناس بالحفظ، وعدم الاهتمام بشروط الإمامة المعتبرة.
والمسألة الثالثة خاصَّة بالمأموم الذي يُتابِع الإمام من المصحف؛ فقد يكون الإمام ضعيف الحفظ، ويحتاج لأحد المُصَلِّين يتابعه من المصحف، فهذا الأمر لا بأس به؛ لأنه يُحَقِّق مصلحة مباشرة، ويحفظ استمرار القراءة دون انقطاع، كما أنه يُعطي ثقة للإمام حيث يطمئن إلى وجود مَنْ يفتح عليه إذا ارتجَّ في القراءة.
والمسألة الرابعة خاصَّة بالمأمومين الذين يحبُّون أن يمسكوا مصحفًا في أيديهم لمتابعة الإمام بغرض التركيز والحفاظ على الخشوع.. فهذه مسألة خلافية بين العلماء.. فبعضهم[9] يرى أنه لا بأس بذلك، أما الآخرون[10] -وأنا أميل إلى هذا الرأي- فيَرَوْن عدم جواز ذلك؛ لأنه يُفَوِّت على المصلي أمورًا من السنَّة، ويُوقِعه في أمور منهيٍّ عنها.. فيُفوِّت النظر إلى موضع السجود، ويفوِّت وضع اليدين على الصدر وإمساك اليمين بالشمال، ويقع في منهيٍّ عنه وهو الحركة بحمل المصحف، وفتحه، وطيه، ووضعه، وهذه الحركة في الصلاة إذا لم يكن لها حاجة فهي مكروهة؛ وهي تنافي كمال الخشوع؛ بل قال بعض العلماء: إن حركة البصر أثناء القراءة تُبطل الصلاة! لأن البصر سوف يتابع القراءة من أول السطر إلى آخره، ومن أول الثاني إلى آخره وهكذا، مع أن فيه حروفًا كثيرة وكلمات كثيرة فيكون حركة كثيرة للبصر، وهذا مبطل للصلاة[11].
أما المسألة الخامسة فهي أمور تساعد القارئ في المصحف على تحصيل الفوائد دون الوقوع في أشياء قد تُقلِّل من درجة الخشوع؛ ومن هذه الأمور أن يضع المصحف الذي يقرأ فيه على حامل مرتفع بحيث لا يكون مضطرًّا إلى حمل المصحف؛ بل ينظر فيه فقط، بينما يقبض بيده اليمنى على اليسرى كما في السُّنَّة، وهذا يتطلَّب أن يكون حجم المصحف كبيرًا حتى يستطيع أن يقرأ فيه عن بُعد، كما يتطلَّب إضاءة جيدة للسبب ذاته، ومن هذه الأمور -أيضًا- استخدام «مصحف التهجد»! وهو مصحف مصمم خصوصًا لهذا الغرض، وفيه يوجد كلُّ ربعين من أرباع الجزء في صفحتين متقابلتين، ولما كان من عادة القرَّاء أن يقرءوا في كلِّ ركعة من ركعات القيام أو التراويح ربعًا واحدًا، وبالتالي يقرءون ربعين في الركعتين؛ فهذا يعني أن القارئ لن يحتاج إلى تقليب الصفحات أثناء القراءة، وهذا لا شكَّ يُقلِّل من الحركة، ويُساعد على الخشوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] البخاري: كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، (4051)، والنسائي (864)، وأحمد (15943).
[2] انظر: الكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/236، وبدر الدين العيني: البناية شرح الهداية 2/421، وابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 2/11.
[3] ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلاَةِ، وَقَالَ الإِمَامِ أَحْمَدُ: لَمْ أَسْمَعْ فِيهَا شَيْئًا (أي في القراءة من المصحف في الفريضة). وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِرَاءَةَ مِنَ الْمُصْحَفِ فِي صَلاَةِ الْفَرْضِ مُطْلَقًا، وذهب بعض الحنفية إلى ذلك فهذه الصلاة عند أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَامَّةٌ وَيُكْرَهُ، انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 33/57، 58، 38/11، 12، والكاساني: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/236، وبدر الدين العيني: البناية شرح الهداية 2/421، وابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق 2/11.
[4] ذكره البخاري في صحيحه معلقًا مجزومًا به، البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب إمامة العبد والمولى. ووصله البيهقي: السنن الكبرى (3497)، وقال النووي: رواه البيهقي بإسناد صحيح. انظر: خلاصة الأحكام 1/500.
[5] مالك: المدونة 1/288، 289، والمقريزي: مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر ص233.
[6] مالك: المدونة 1/288.
[7] النووي: المجموع شرح المهذب 4/95.
[8] انظر: ابن قدامة: المغني 1/411، والبهوتي: دقائق أولي النهى لشرح المنتهى 1/211، والموسوعة الفقهية الكويتية 33/57.
[9] انظر موقع إسلام ويب الفتوى رقم (26718): http://fatwa.islamweb.net.
[10] انظر: مجموع فتاوى ابن باز 11/340- 342، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 14/232، وفتاوى اللجنة الدائمة (المجموعة الثانية) 5/384.
[11] انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 14/233.
التعليقات
إرسال تعليقك